١٣ ربيع الآخر ١٤٣٣

الصين العملاق الاقتصادي و السياسي


علي بدوان  

تجلت مسيرة الصين الجديدة، بعد إقرار سياسة الانفتاح، في انطلاقة جبارة لاقتصاد بات هو الرابع في اقتصادات العالم بعد كل من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان، حيث تشير تقديرات فلاسفة الاقتصاد في العالم إلى أن الاقتصاد الصيني سيصبح أكبر اقتصاد في العالم قبل منتصف هذا القرن، بل إن البعض توقع حدوث ذلك عند نحو 2035 إذا استمرت معدلات النمو الحالية للاقتصاد الصيني على حالها، متبوعة بسياسات رشيدة على المستوى الاقتصادي المتبع في إطار العلاقات المتبادلة مع دول العالم، ومترافقة مع تنمية عوامل الاستثمار الصيني في الخارج، والاستثمار الخارجي في الصين، بعد أن كان محظوراً لعقود خلت. ومتناغمة مع سياسة رشيدة تضع أمامها ضرورة تحقيق قفزات نوعية وبشكل سنوي في هذا المضمار، متناغمة مع سياسة خارجية صينية تقوم على الاعتدال وتجنب الصدام «المباشر» مع القوى المقررة في الشأن الدولي.
فالعملاق الصيني يسير بجموح وطموح عال لاحتلال الموقع الثاني في اقتصادات العالم، كعملاق قادم بصمت وعزيمة، عبر اقتصاد هائل، وأحلام واسعة، واستراتيجية ترمي لربط دول عديدة به، وفي تحد واضح للهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة. فقد حققت جمهورية الصين ووفقاً لمعلومات مستقاة من مصادر صينية قفزات اقتصادية خلال الأعوام القليلة السابقة، إذ إنها ومنذ عام 1978، بدأ إنتاجها الاقتصادي بالنمو بمعدل 9.4 ليتضاعف الناتج الكلي للفرد فيها بنسبة خمسة أضعاف. كما أن لديها 61 بليون دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر حسب إحصاءات عام 2004، وقد بلغت تجارتها الخارجية نحو 851 بليون دولار لتصبح ثالث أكبر دولة في العالم من ناحية التجارة الخارجية، وأمام قوتها في التجارة الخارجية، بلغ العجز التجاري الأميركي مع الصين عام 2005 أكثر من 200 بليون دولار.
إن الفورة الاقتصادية الصينية، لم تكن لتأتي بيسر وسهولة، بل جاءت مخاض ولادة عسيرة، لم يكن ممكناً لها أن ترى النور بسهولة بعد عقود من الانغلاق الذي عاشته الصين الشعبية في ظل أزماتها المتعلقة بالصين الوطنية «تايوان» والحرب الكورية عام 1955 وأزمات الهند الصينية مع وجود الاحتلالين الفرنسي والأميركي لبلدان تلك المنطقة، وبعد حصار دولي هائل مورس بحقها إبان اشتداد صراع الأقطاب والحرب الباردة، التي ترافقت مع صراع «صيني/روسي» بين رفاق الأيديولوجيا اتخذ عناوين الخلاف في الاشتقاق الأيديولوجي لأبناء المدرسة الماركسية اللينينية. فقد نجحت الولادة القيصرية بدرجة عالية، بعد أن بدأت بكين إتباع سياسات الانفتاح المدروس، لمصلحة مرونة عالية في صياغة العلاقات الخارجية للصين في جانبيها السياسي والاقتصادي، وانتهاج سياسة شديدة الاعتدال على المستوى الدولي وخصوصاً بالنسبة لمناطق الأزمات في العالم، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الإصلاحات اليومية الجارية في الصين لعبت دوراً مهماً في الفورة الاقتصادية، فهي إصلاحات أخذت بالحسبان رفع مستوى الأداء الاقتصادي والتخلص من المعوقات الإدارية البيروقراطية، وتسخير القانون وأنظمة الاقتصاد وتطويرها بشكل عملي في خدمة الاقتصاد، وتنمية الاستثمار والتصدير، الذي فاق ما ضخته الصين الشعبية من فائض تجاري بلغ العام الماضي 177 مليار دولار. كما أن النجاح الذي ينعم به الاقتصاد الصيني، مصدره انخفاض الأجور، وبنية تحتية جيدة، ومراعاة قواعد الحفاظ على التوازن المطلوب، وانسجاماً مع ذلك، تستكمل بكين صياغة القوانين واللوائح ليتوسع مدى انفتاح السوق الصينية على الخارج وتتحسن البيئة الاستثمارية باستمرار، وزد على ذلك، تواصل عملية إصلاح النظام النقدي بخطوات ثابتة.. وفي هذا السياق، دخلت اتفاقية التجارة الحرة بين الصين والبلدان الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان» حيز التنفيذ مع بداية العام الجاري، في ساحة باتت الآن أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، نظراً لأنها تشمل 1.7 مليار مستهلك بناتج محلي إجمالي مشترك قدره 1.3 تريليون دولار، ومن المتوقع لها أن تأتي بالمنافع المتبادلة للصين وباقي الدول الموقعة على الاتفاقية، على الرغم من تخوف البعض من إمكانية ابتلاع الصين لاقتصادات الدول المذكورة التي تشكل في الوقت نفسه مصدراً مهماً للعديد من الخامات التي يحتاجها الاقتصاد الصيني لمواصلة النمو، وخصوصاً خام النفط.. وبموجب هذه الاتفاقية، تُعفي التبادلات التجارية بين الصين، بروناي، إندونيسيا، ماليزيا، الفلبين، سنغافورة، وتايلاند من الرسوم الجمركية المفروضة على 7000 سلعة قبل سريان الاتفاقية، ومن المقرر أن تنضم فيتنام، لاوس، بورما، وكمبوديا إلى اتفاقية التجارة الحرة هذه بحلول عام 2015.. إن الصين تمتلك الآن أسرع اقتصاديات العالم نمواً «11% سنوياً»، وتحتل المرتبة الأولى في ادخار الاحتياطات الأجنبية حيث بلغت 1534 مليار دولار «بالدرجة الأولى الدولار الأميركي». وتمتلك أكبر جيش في العالم من حيث العدد «يتراوح بين 2.5 - 3 ملايين فرد»، ورابع أكبر ميزانية دفاع في العالم والتي تتزايد بنسبة 10% سنوياً»، لكنها مازالت بحاجة لخطوات وخطوات أكبر حتى تأخذ مكاناً حقيقياً في الاقتصاد العالمي، لتظهر كلاعب مستقل في المجتمع الدولي، يستطيع فرض شروطه التي يفضلها، ولا يقبل أو يستجيب لشروط الآخرين ورغباتهم السياسية تجاه العديد من القضايا الدولية المطروحة على جدول أعمال المجتمع الدولي.
وفي هذا السياق، فإن التوجه الاقتصادي الصيني يفترض به أن يتكامل مع إعادة تنشيط الدور السياسي للصين، فإهمال الجانب السياسي المتعلق بالحراكات الدولية الكبرى يضعف الموقف الصيني عند أصدقاء الصين الذين يرون أن لبكين دوراً مهماً في سياق إدارة السياسات الدولية، وفي سياقات كسر حدة الاستقطاب الدولي الذي تعمل واشنطن على تكريسه انطلاقاً من مصالحها الكونية، وانطلاقاً من رغبتها في إدامة إمساكها بخيوط اللعبة الدولية غير عابئة بمصالح باقي دول العالم بما فيها الدول الكبرى كالصين وروسيا واليابان ودول الاتحاد الأوروبي.
من هنا، من غير المفهوم مثلاً أن دولة مصطنعة اسمها «إسرائيل» تضغط للحصول على المزيد من تحقيق «التحييد» للموقف الصيني تجاه قضايا الشرق الأوسط انطلاقاً من شعورها بحاجة الصين لما لديها من تكنولوجيا عسكرية.. ومع ذلك، فإن الموقف الصيني وعلى مستوياته المختلفة مازال محافظاً على نسقه التاريخي في إسناد القضايا العربية، ومنها قضية فلسطين، وهو ما يتطلب من العرب بشكل عام رفع درجة الاهتمام والعناية بملف العلاقات العربية مع الصين، وإعطاءه الأولوية في دوائره المختلفة بما فيها الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية.

أهم الأخبار

اليوم السابع

عشق الصين

سجل الزوار