١٢ ربيع الأول ١٤٣٣

التراجع الأميركي و وهم الصعود الصيني

* ويليام فاف
في غضون عقد من الزمن تغير تماماً الإطار الذهني الذي يطل من خلاله معظم الأميركيين بمن فيهم خبراء السياسة الخارجية، على العالم . ففي فبراير عام 2002 كانت الولايات المتحدة والتحالف الشمالي بأفغانستان قد خرجا لتوهما من انتصار مهم أطاح نظام "طالبان" ومهد الطريق لتنصيب حكومة تابعة في كابول، وهو ما حدا بمجلة رصينة مثل "الإيكونمست" إلى التأكيد بعد عام بنبرة تفاؤلية أن أفغانستان "أكثر استقراراً مما كانت عليه طوال 24 عاماً الأخيرة". وبعد ذلك انخرطت أميركا في حرب أخرى بالعراق و كانت ثقتها عالية في قدرتها على الثأر لنفسها من الهجمات على نيويورك والبنتاجون التي تبين لاحقاً أن لا علاقة للعراق بها، وذلك لخلق شرق أوسط جديد، حيث اعتقد الأميركيون أنهم يتربعون على قمة العالم وبأنهم قادرون على كل شيء، وأن التقدم من الآن فصاعداً هو المآل، بل إن أحد الوجوه البارزة في تيار المحافظين الجديد قال وقتها: "لدينا وكالة من أجل التنمية الدولية ستحول الصومال إلى ما يشبه النرويج" وهي كلمات تعبر عن نظرة أميركا للشرق الأوسط الجديد الذي كانت تطمح إلى إقامته. لكن بعد عقد على هذا الكلام وإنفاق أكثر من تريليون دولار، والخسائر البشرية الكبيرة، ما زالت الحرب في أفغانستان مستمرة دون هوادة، فيما الحرب في العراق التي يقال إنها انتهت لاتزال في الحقيقة متواصلة في ظل إبقاء ستة آلاف من المسؤولين وحراسهم الشخصيين في البلاد. هذا في الوقت الذي يمكن فيه استبعاد حرب على بلد إسلامي آخر هو إيران.

و فيما تواصل واشنطن توسيع انخراطها العسكري في العالم غير الغربي، يرى الرأي العام الأميركي والعديد من الخبراء في السياسة الخارجية، أن الولايات المتحدة في طريق الانحدار، وأن تماسكها الاجتماعي ووحدة الهدف بدآ يضيعان، ناهيك عن الانقسامات المجتمعية بين أصحاب الثروة والغالبية العظمى من المجتمع التي يزيد من تفاقمها ضعف الاقتصاد بسبب الركود العالمي الذي يهدد بكساد محتمل.

والأمر هنا لا يتعلق بوهم يشعر به الأميركيون، بل هناك من المؤشرات ما يدل فعلاً على هذا التراجع الذي تكرسه أزمة النظام الانتخابي الأميركي، والصراعات السياسية غير المجدية. وقد رصد هذا الضعف الأميركي المفكر السياسي والاستراتيجي البارز زبيجنيو بريجنسكي، في كتابه الأخير الذي أكد فيه أن أميركا "تعاني من تراجع واضح لأسباب داخلية وخارجية"، وأن فقدانها للنفوذ الدولي يهدد الجهود العالمية للتعامل مع "القضايا المهمة لازدهارنا الاجتماعي وللبقاء البشري". وتختزل أميركا نظرتها للعام في إطار يبالغ كثيراً في التخوف من الصعود الصيني والتحسر على الانحدار الأميركي، وهي النظرة المغلوطة المستندة على نمو الاقتصاد الصيني وقوته المالية، بالإضافة إلى الطاقة البشرية الهائلة بعدد سكانها البالغ 1.3 مليار نسمة. لكن هذا التصور يغفل أن العدد الكبير للسكان لا يعني تلقائياً الازدهار الاقتصادي وممارسة النفوذ كما اكتشفت الهند ذلك، كما لا يتحول التفوق العددي للسكان إلى قوة عسكرية ضاربة على غرار ما يعتقد ذلك البنتاجون الذي راح يدشن قواعد عسكرية جديدة في آسيا لمواجهة احتمالات الحرب في المنطقة. وفيما تمتلك الصين دخلا إجماليا محلياً كبيراً وضخماً، إلا أن نصيب الفرد منه يظل متواضعاً وهزيلاً بحيث تحتل الصين المرتبة 91 في قائمة من 184 دولة شكلها صندوق النقد الدولي، لتسبقها في ذلك ستة بلدان إفريقية. أما فيما يتعلق بالمعايير المعيشة مقارنة بالقدرة الشرائية، فإن الصين تهبط أكثر في سلم المقاييس الدولية.
ومن المهم في ظل هذا التخوف من الصين الذي يحكم النظرة الأميركية للعالم التساؤل عن تطلعاتها العالمية، فهي إلى حدود علمنا لم تبدِ يوماً اهتماماً بالهيمنة الدولية فيما عدا جوارها الإقليمي الذي تعتبر نفسها فيه صاحبة الحضارة، وحتى استثماراتها العالمية تبقى منفصلة عن الغايات السياسية ولا تسعى من خلالها إلى بسط نفوذها الاستراتيجي، ليقتصر همها على توفير المواد الخام لاقتصادها بما فيها الطاقة.
لذا من الأفضل للأميركيين التخلي عن هوسهم بصعود الصين وقدرتها على اكتساح أميركا لأن ذلك لن يحصل، وبدلاً من ذلك العودة إلى نظرتها التقليدية عن التهديد الأوروبي. فلو أن الأوروبيين خرجوا من أزمة الديون العاصفة التي تجتاح دولهم والمستوردة من الولايات المتحدة ومن وول سترتيت تحديداً، فستجد أميركا نفسها أمام دول أوروبية تمتلك مجتمعة دخلاً إجمالياً محلياً أكبر من نظيره الأميركي، بما في ذلك نصيب الفرد منه. هذا بالإضافة إلى معايير معيشية أفضل وتعليماً متميزاً يبز النظام التعليمي الأميركي يخرج عينة من المهندسين ومديري الشركات أفضل وأكفأ من نظرائهم في الضفة الأخرى من الأطلسي. وهو الأمر الذي أدركته بالفعل شركة أميركية مثل "بوينج" بعد المنافسة الشرسة لشركة "إيرباص" على الأسواق العالمية وتحقيقها لاختراقات كبيرة في هذا المجال. دون أن ننسى عدم استعداد تلك الدول للانخراط في الحروب الأميركية التي لا شك أنها ستوفر لها موارد مالية هي في أمس الحاجة إليها لتطوير اقتصادها والعودة إلى الساحة العالمية كمنافس حقيقي للولايات المتحدة أكثر صدقية من الصين.

* كاتب ومحلل سياسي أميركي

أهم الأخبار

اليوم السابع

عشق الصين

سجل الزوار