١٤ ربيع الأول ١٤٣٣

عالم الصين الموازي


* إريك لي

أصدرت الحكومة الصينية مؤخراً، قواعد جديدة بغية تعزيز ضوابط الإنترنت، كان أبرزها إلزام مستخدمي موقع "ويبو" للتدوين المصغر.

وهو الخدمة الصينية الموازية لخدمة "تويتر"، باستخدام أسمائهم الحقيقية. وأكد بعض مستخدمي "ويبو" ارتفاع مستوى مراقبة الحكومة والرقابة الذاتية من جانب الشركات المستضيفة. ويندد كثيرون بهذه الخطوة، باعتبارها انتهاكاً آخر من جانب الصين لحرية التعبير. لكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. قبل أكثر من عشر سنوات، عندما كانت شبكة الإنترنت في الصين في بداياتها مع بضعة ملايين من المستخدمين، أوضحت الحكومة الصينية أنها ستفرض قدراً من الرقابة السياسية على الفضاء الإلكتروني الناشئ خلال سماحها له بالنمو.
وتنبأ العديد من الخبراء حينها بأن ذلك النوع من الجهود كان محكوماً عليه بالفشل. فالإنترنت، على حد تعبيرهم، كان من شأنه أن يكون عالماً شجاعاً جديداً لا يمكن السيطرة عليه. ولم يكن هنالك سوى نتيجتين محتملتين، إما شبكة إنترنت تتوسع بحرية بعيداً عن متناول السلطة السياسية، أو شبكة إنترنت تخنقها الرقابة الحكومية وتعجز عن تحقيق منافعها الاجتماعية والاقتصادية المحتملة. وعلى نحو معروف، أعلن روبرت مردوخ، أن التقدم في تكنولوجيا الاتصالات يشكل "خطراً لا لبس فيه على الأنظمة الشمولية في كل مكان".
وعلى نحو أثار حيرة أولئك الخبراء، لم يحدث أي من الاحتمالين في الصين. وبأي معيار من المعايير، فإن شبكة الإنترنت في الصين تعد من أنشط المجالات الإلكترونية الاقتصادية والاجتماعية على مستوى العالم، حيث يستخدمها نحو 450 مليون شخص لأغراض التواصل والتفاعل والترفيه.
وقد أوجدت شركات الأعمال التجارية عشرات المليارات من الدولارات، في هيئة قيمة اقتصادية. وتعتبر شركات محركات البحث والتجارة الإلكترونية والفيديو عبر الإنترنت الصينية، من ضمن الشركات الرائدة في العالم. وعبر موقع "تاوباو"، أي "إيباي" الصيني، تجري الملايين من المتاجر المملوكة والمدارة من قبل عائلات، معاملات بمليارات الدولارات شهرياً. وعبر خدمتي "كيوكيو" و"سينا"، وهما أكبر خدمتين تابعتين لـ"ويبو"، يتواصل 200 مليون مستخدم بصورة نشطة، للإعراب عن وجهات نظرهم بشأن أي شيء وكل شيء.
وفي الوقت ذاته، يعمد نظام رصد ضخم، توجهه الحكومة ويصاحبه تنظيم ذاتي من قبل الشركات المستضيفة، إلى جعل شبكة الإنترنت في الصين خاضعة لمستوى عال من الرقابة من جانب السلطة السياسية، إذ يحظر استخدام موقعي "فيسبوك" و"تويتر" فيما تزدهر النسخ المحلية منهما.
لقد ساهم كل من حجم الصين وحكمها المركزي، في إنشاء عالم إنترنت مواز للعالم الموجود في الخارج ومنفصل عنه. إلا أن هذا لا ينفي حدوث تسريبات، ولا توفر الشبكات الخاصة الافتراضية بكثرة. ويتم تجاهل التسريبات البسيطة، ولكن عندما تصبح التسريبات ذات أهمية، يتم سدها، وبصراحة في بعض الأحيان.
تسعى الصين وراء استجابة مميزة لشبكة الإنترنت. ومنذ ما يقرب من نصف قرن، أي في بداية ثورة المعلومات، ألف نوربرت فاينر، أحد أبرز المفكرين على شبكة الإنترنت، كتاباً مؤثراً بعنوان "علم التحكم الآلي". وقسم فاينر الاستجابات البشرية للتحديات الجديدة إلى نوعين؛ تخلقية ونشوئية. ويتم تنظيم الأنشطة التخلقية وتنفيذها، من خلال مؤسسات مصممة مركزياً من أجل تشكيل تنمية المجتمع.
أما الاستجابة النشوئية فهي تطورية، وتشبه طريقة تصرف البكتيريا في التفاعلات المتبادلة دون رقابة تنظيمية. ولطالما تميز تطور الحضارة الإنسانية بالنضال المستمر بين هذين النقيضين، حيث تحاول النشاطات التخلقية السيطرة على الاستجابات النشوئية، فيما تحاول الاستجابات النشوئية تقويض النشاطات التخلقية. وهي علاقة خصومة وتكافل في الوقت ذاته، شأن الين واليانغ.
وفي سياق اليوم، فإن السلطة السياسية تمثل الاستجابة التخلقية، في حين يمثل الفضاء الإلكتروني النشوء والتطور. وتعتمد صحة المجتمع البشري على الموازنة بين الاثنين، وحين يختل توازنهما، يمرض الجسم السياسي وتنشأ عواقب كارثية.
ونظراً لقابلية الإنترنت للتوسع، فإنه ربما يشكل الاجتياح النشوئي الأقوى للجسم السياسي في الآونة الأخيرة. وقد تحدث بيل دافيدو، في كتابه "متصلة أكثر مما ينبغي: وعود الإنترنت وتهديداته"، عن قدرة "الإفراط في الاتصال" عبر الإنترنت على نشر "أمراض معدية" مثل الأوبئة. فالإنترنت لا تمثل قوة خير مطلقة، ومن الممكن أن تلحق الضرر بالمجتمع البشري.
ويشبه النهج الذي تتبعه الحكومة الصينية، النهج المستخدم في الطب الصيني، إذ ينصب التركيز على شبكة الإنترنت باعتبارها جزءاً عضوياً من الجسم السياسي. والتدخل الزائد يضاهي في سوئه التدخل الضئيل، والرصد المستمر ضروري لمعرفة متى وكيف يجب التدخل. والكلمة الصينية التي تعبر عن ذلك هي "تياو"، أي الضبط المستمر لنظام معقد. والحالة الصحية الراهنة لعالم الإنترنت الصيني، ليست سيئة. فعلى الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فإن شبكة الإنترنت آخذة في الازدهار. وعلى الصعيد السياسي، يجري استخدامها للمساعدة في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، رغم التغير السريع.
وتقدم وسائط الاتصال الاجتماعية صمام أمان، حيث تلفت انتباه الحكومة إلى المشكلات التي يحتمل أن تخرج عن نطاق السيطرة. ويمكن للإفراط في تضخيم هذه المشكلات أو الإفراط في قمعها، أن يتسبب في انفجارها، وبالتالي زعزعة استقرار البلاد، وهو آخر ما تحتاجه الصين، بعد أن تركت وراءها قرنين من الحروب والثورات.
وفي الوقت الذي يتأثر عالم الصين الموازي بالعالم الخارجي على نحو لا مفر منه، يحدث العكس كذلك، إذ تطالب الهند حالياً كلًا من "فيسبوك" و"غوغل" بإزالة أية مواد ازدرائية، والبلدان الأخرى ستحذو حذوها. وفي نهاية المطاف، كما في العالم الحقيقي، لن يكون الفضاء الإلكتروني مسطحاً، ولكنه سيضم سلاسل مترابطة من الجبال والوديان.
* كاتب صحافي وممثل أميركي

أهم الأخبار

اليوم السابع

عشق الصين

سجل الزوار