٢٦ شوال ١٤٣٢

مسلمون صينيّون يكتبون الحديث الشريف



لمصاحف القديمة رهبة أوراقها الصفر، وفيها شيءٌ من القداسة، حتى أن مصاحف السبعينات من القرن الماضي، التي كانت توزّعها وزارات التربية والتعليم العربية على أبنائها طلبة المدارس، تشي بفزع التلميذ وهو لا يخالطه شكٌّ بأنها نزلت من عند الله، هكذا، بأوراقها الصفر.
في الحي المسلم بتانجين، إحدى كبريات مدن الصين وحاضراتها الاقتصادية والرياضية، تعود بنا كتب الحديث النبويّ الشريف إلى زمن الوراقين؛ حيث يشتغل الورّاق على الكتاب، ينسخه نسخاً تفي بغرض اقتنائه للتعليم أو لتوزيعه على الأمصار، فتحل عين الوراق محل شاشات الحواسيب اليوم، وتخطّ ذراعه شؤون الحياة في الدين واللغة والأدب والطب والزراعة والكيمياء، وما يتصل بها من مجالات.
ظلّ الحاج يوسف، الذي قرأ الفاتحة وسوراً قصيرة من القرآن الكريم لوفد اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين، يرسم ابتسامته على مجالسيه، مردداً (إن الله يحب المستبشرين)، ليوزّع كتاباً زاهياً، أخضر، حمل عنوان (من الهدي النبوي: 200 حديث في الأخلاق)، لا يودّ مقتنيه أن يتخلى عنه؛ خصوصاً حين يطالع الأحاديث الأولى من الكتاب الباهي، الواقع في 100 صفحة من القطع الكبير.
الحاج يوسف، هو الاسم العربي أو المسلم للصيني إمام مسجد تانجين القديم، ومثله كثيرون يتسمّون بأسماء ذات طابع إسلامي، حتى أن مشرف الكتاب ذيّلَ اسمه الصيني باسمه المسلم صالح(صالح. وي. جي. ليانغ). وعلى وعورة اللغة العربية الفصيحة وتباين لهجاتها في البلاد العربية، فإن لدي الصينيين إصراراً عجيباً في الإمساك بعمومها والوقوف عند الكثير من تفاصيلها، يصدق هذا حتى على الأكاديميين الذين يدرسون اللغة العربية في الأردن أو سوريا أو مصر، إذ يلقي هؤلاء في أحاديثهم ألفاظاً كثيرةً من محكيّة هذه البلاد.
(من الهدي النبوي)، كتابٌ صدر في نيسان ألفين وعشرة، وامتاز بخصائص السهولة والرونق وذكاء اختيار الأحاديث، ويبدو أن يداً مسلمةً صينيةً حبّرت حروفه بالحبر الصينيّ الفاحم، شديد السواد، على أرضيّة ورق أصفر حُدد إطاره بخطوط حمر، كما كانت الدعوتان (صلى الله عليه وسلم)، و(رضي الله عنه) اللتان تكررتا كثيراً في نقل الأحاديث ونسبتها إلى الرسول الكريم بتواتر الصحابة والتابعين،.. كانتا تتخذان وضع الدائرة الصغيرة، على نحو يلمحه المهتم في الكتب القديمة ذات العلاقة، يزيد هذه الدوائر الصغيرة سطوعاً أنها كتبت بالأحمر القاني، بين جمل وتراكيب الحديث السهل معنىً، البعيد عن الغريب من اللفظ، أو محل الاجتهاد.
لم تكن جمل الأحاديث طويلةً، كما لم تكن صلبة البناء اللغوي، والمسافات المريحة بين الحديث والذي يليه تعطي للعين مدىً، وربما إحساساً بالخشوع، وعند تأمل شكل الحرف المتموج بين ضخامة مساحة الحبر أو حجم الحرف وليونته أو دقّته، فإنّ يقيناً بأنّ صينيّاً مسلماً نقل هذه الأحاديث بنوع الخط الذي تعلّمه، وهو خطٌّ للنسخ أقرب، مع أن تذييل الحديث بشوارح النقل والإسناد يمكن أن تخالطه حروف مرسومة بخط الرقعة.
صفوة القول أنّ هذه الأحاديث، التي تقابلها شروحات يسيرة باللغة الصينية، إنما وضعت لتنسجم مع ذائقة وعقل الصينيّ حديث العهد بلغة القرآن أو لغة العرب، بل حديث العهد بتعاليم الإسلام وسننه، وهو ما يجعل من القارئ العربي يتغاضى ربما عن هفوات الكتابة اليدوية في ضبط اللغة (نحوها)، إدراكاً منه أنّ هؤلاء ممن هم حديثو الألفة(المؤلفة قلوبهم)، وطمعاً في ألا ينفروا أمام مشاق اللغة واجتهاداتها ووعورتها ومحكيّها ووليدها وفصيحها، مع أنّ في اللغة العربية ما لا يتأثر معناه بتغيير ضبط حروفه(صرفه)؛ فغير العربي المسلم لن يخرج عن دينه إن ضمّ راء (الرحمن)، أو كسر هذا الحرف.
النتيجة أن هؤلاء قومٌ تتعلق قلوبهم بهذا الدين، وهم مستعدون للأخذ والتعلم، وربما تحسن الدول العربية والإسلامية حين تطبع لهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتتدخل بطريق طيّب لتجمع هؤلاء على قراءةٍ واحدة، تكون سبباً في ألا ينفروا من تعدد القر اءات، كحديث (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم)، الذي كُتب على الصيغة (قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وهو الحديث الذي ذُيل برواية النعمان رضي الله عنه وإخراج الشيخان في الصحيحين)، مع أنّ (عضواً) ورد في حديث يحمل المعنى ذاته فاعلاً، وهكذا، فإنّ للغة تأويلات ومخارج يمكن أن تتباين، وجميعها يكون محل قراءة.
كلّ الأحاديث في الكتاب تدعو وتحثّ، وفي كثير منها ما يثير الرهبة والخوف والزهد، كقوله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً مُنسياً، أو غنىً مُطغياً، أومرضاً مُفسداً، أو هرماً مُفنّداً، أو موتاً مُجْهزاً، أو الدجّال فشرّ غائبٍ ينتظر، أو الساعة؛ فالساعة أدهى وأمَرّ).
وفي الأحاديث، أيضاً، فإنّ ألفاظاً ضُبطت وكأنّ عامل النصب فيها لا يعمل، كما في حديث الرحمة الذي ورد بالصيغة (قال النبي صلى الله عليه وسلم:»لا يؤمن أحدكم حتى يُحبُّ لأخيه ما يحب لنفسه» وهو الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه وأخرجه الشيخان في الصحيحين، ذلك أن (يحب) وردت مرفوعةً؛ في حين أن حقها أن تُنصب استجابة لحتى، مع أن معنى الحب هو هو لم يتغير في الحالتين، لكنّ يداً تخلص للعربية تتدخل بذكاء؛ تعلّم وتحفّز وتكافئ مثل هؤلاء القوم الذين شرح الله صدورهم للإسلام.

أهم الأخبار

اليوم السابع

عشق الصين

سجل الزوار