أساس التفوق الأميركي عند نهايات القرن العشرين إنما يرجع الفضل فيه إلى ما استطاعت عقلية الابتكار الأميركي أن تنجزه، ولاسيما خلال العقود الثلاثة، أو الأربعة الأخيرة من القرن المذكور: نتحدث هنا عن إنجازات العقل الأميركي في مجال البث الفضائي باستخدام التوابع (الأقمار) الاصطناعية.
وهو ما حمل رسالة أكثر من بليغة، فما بالك إن كانت رسالة فورية بل لحظية، إن وكان مضمونها يرمز إلى فتوة النهج الأميركي ــ مقابل شيخوخة النهج السوفييتي في التعامل مع قضايا الاتصال والإعلام والبث الذي اتسع مداه ليتحول معه العالم منذ السبعينات الماضية إلى قرية عالمية، أو بمعنى «بلدة عولمية غلوبالية على نحو ما ذهب إليه داعية الإعلام الالكتروني في الزمان المعاصر، المفكر الكندي الأصل مارشال ماكلوهان (رحل عام 1981).
لينغوا فرانكا
وفيما جاء اتساع هذا النطاق الأميركي في دنيا الإعلام والاتصال.. فقد كان من حظ اللغة الإنجليزية ــ في استخداماتها ومصطلحاتها الأميركية بالذات ــ أن تكون هي الوسيلة الحاملة لتلك الرسالة الإعلامية وشبه الثقافية.. وهو ما أتاح للإنجليزية أن تكون بحق هي لغة التخاطب الكوكبية ــ «لينغوافرانكا كما يقول المصطلح المأهول.
ثم زاد من حظوظ الإنجليزية أيضاً أن كانت وسيلة الاستخدام بالنسبة للفتوحات التي شهدتها أجواز الفضاء الالكتروني متمثلة في إنجازات التطوير الحاسوبي التي تجسدت في ثمار تكنولوجيا المعلومات والاتصال «الآي تي كما يقول أيضاً التعبير الشائع بكل ما أصبحت هذه التكنولوجيا تنطوي عليه من سبل التواصل اللحظي عبر أصقاع وأبعاد كوكبنا الأرضي.. ابتداء من البريد الالكتروني وليس انتهاء بصالونات وأروقة التواصل الشخصي والاجتماعي وما إلى ذلك بسبيل.
المهم أن كل هذه الإنجازات، ومنها ما تم بمنطق المخالفة بمعنى اختفاء المنافس الروسي من الصورة، ومنها ما تم بمنطق الإنجاز الحقيقي في دنيا المعلومات والاتصالات على نحو ما أوضحنا.. كل هذه المنجزات هي التي دفعت بأميركا على مدار عقد التسعينات إلى مرتقى الدولة رقم واحد في العالم..
فما بالنا وقد تولى زمام قيادتها الرئاسية في البيت الأبيض، وعلى مدار 8 سنوات كاملة رئيس مثقف شاب هو بيل كلينتون استطاع بصورة أو بأخرى أن يجني ثمار ما سبق إليه أسلافه ومواطنوه من منجزات، فكان أن ترك منصب الرئاسة في أواخر لحظات القرن العشرين وقد خلّف رصيدا متراكما من الفائض المالي واليسر الاقتصادي، ما لبث أن تبدد مع السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين.
بوش الابن
لقد شهدت تلك السنوات الاستهلالية من مطالع الألفية الثالثة.. صورا من تخبط القيادة الأميركية في حقبة الرئيس «بوش ــ الابن وكان في مقدمتها شن اثنتين من الحملات العسكرية في كل من أفغانستان والعراق.. فيما كان من ملابساتها ذلك الانحياز الذي تمسك به الحزب الجمهوري الحاكم إلى بارونات عالم التجارة والأعمال (أباطرة البيزنس) ومنهم إلى معاونيهم من رؤساء مجالس الإدارة وكبار المديرين التنفيذيين في مضمار البنوك وبيوتات التمويل ومؤسسات الإقراض.
وجاء ذلك كله على حساب الملايين من عامة الشعب الأميركي الذين اكتووا أيامها بلظى سوء توزيع الثروة وانسحاب الدولة بوصفها أكثر الكيانات تنظيما من مسؤولياتها في تنظيم وتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية وفي مقدمتها ما يتعلق بالضمان الاجتماعي والرعاية الصحية
. ولقد أسلم هذا كله ــ كما بات معروفاً ــ إلى اندلاع لهيب أزمة الرهون والقروض العقارية، منذ خريف عام 2008.. وهي نفس الفترة ــ حتى لا ننسى - التي عكف فيها الكاتب فريد زكريا على تأليف كتابه الذي انطلق فيه من واقع انحسار دور واشنطن جنبا إلى جنب مع إصابة اقتصادها القومي وقدراتها المالية بأمراض التراجع وأزمات التمويل وأدواء العجز عن الوفاء بالتزامات سداد القروض.
القوى الصاعدة
والحاصل أيضاً أن تَزَامن هذا الانحسار في هذا الدور والكيان الأميركي مع ظاهرة صعود قوى ناهضة وطامحة في شرق العالم وغربه.. ما بين البرازيل إلى روسيا وما بين الهند.. ثم الصين.. ونقول الصين بشكل خاص، وهي التي مازالت ماضية في حال من الصعود المتواصل ــ رغم كل مشكلاتها الداخلية غير المنكرة ــ بحيث باتت تشكل تحدياً ينبغي أن يحسب له ألف حساب.
لا عجب إذاً أن يحاول فريد زكريا، في كتابه المذكور استشراف الحقبة القريبة وربما حتى الوشيكة من سنوات عقدنا الحالي، وهو الثاني من القرن الحادي والعشرين.. وأن يتصور أننا إنما نواصل المسير نحو ما وصفه بأنه «عالم ما بعد أميركا.. وهو في هذا يحاول أن يرسم صورة دقيقة ولكن من منظور النهج العلمي.
لا لكي تعكس تراجع أميركا بقدر ما أنها تعكس، أو تحاول أن تعكس، صعود قوى جديدة هي «قوى اللاغرب على نحو ما يذهب إليه المفكر الأميركي جون اكنبري (في دراسة نشرها في مجلة الشؤون الخارجية «فورين أفيرز") وكان يقصد بهذا القوى غير الأوروبية.
وطبعاً القوى «الأخرى من غير الولايات المتحدة، بعد أن ظلت تلك القوى ناشرة نفوذها وتأثيرها، بل بسطت سلطانها على بقاع شتى من خارطة عالمنا وخاصة، وفي حالة أوروبا الغربية بالذات، خلال الحقبة الإمبريالية التي بدأت مع احتلال بريطانيا - الإمبراطورية شبه الجزيرة الهندية منذ سنوات القرن الثامن عشر للميلاد.
الهند محور الاهتمام
في كل حال تظل الهند محوراً دائماً لاهتمامات المفكرين والساسة الأميركيين.. وفيما يرجع قدر مفهوم من هذا الاهتمام إلى كون الهند واحداً من الأطراف حائزي الطاقة والقنبلة النووية في قارة آسيا، فما زال هناك من المحللين السياسيين في الولايات المتحدة ــ ومنهم فريد زكريا نفسه ــ من يرى في الهند حليفاً محتملاً لأميركا في مستقبل الأيام.. بقدر ما يرى هذا الفريق من المفكرين السياسيين أن الصين هي الغريم ــ المنافس لأميركا في مستقبل الأيام بنفس المقياس.
في نفس السياق نلاحظ أن هذا المنحى من التفكير السياسي في أميركا.. تتردد أصداؤه في جنبات التفكير السياسي في الهند.
ها هو الكاتب الهندي راجا موهان ينشر دراسة مهمة في هذا السياق في مجلة «ذي أميركان انترست يؤكد فيها أهمية بناء هذه العلاقة من التحالف العضوي الوثيق وليس مجرد المودة أو الصداقة بين واشنطن ونيودلهي.
والمعروف أن المجلة الأميركية المذكورة يقوم على تحريرها ونشرها مفكر أميركي من أصل ياباني هو فرانسيس فوكوياما صاحب الدعوة التي سبق وأقامت احتفالات النصر لصالح أميركا بعد المحاق السوفييتي الذي ألمحنا إليه.. وتمثلت هذه الدعوة في كتاب فوكوياما بعنوانه الشهير «نهاية التاريخ.
وبالمناسبة أيضاً فقد جاءت تطورات الأمور مع سنوات القرن الجديد الراهن.. سواء بسبب انتهاج سياسات استعلائية بل مدمرة أحياناً خلال حقبة بوش ــ المحافظين الجدد في واشنطن، أو بسبب الأزمة المالية التي عصفت بآمال الناس وزادت من آفة البطالة بحجم الملايين ثم جاء هذا كله مخيباً لما ذهب إليه فوكوياما شخصياً من توقعات، فضلاً عما عقده من آمال عراض بالنسبة لما كانت ترنو إليه أميركا من مكان ومكانة في مستقبل الأيام.
باريس ونيودلهي
لقد نشر راجا موهان دراسته التي أشرنا إليها تحت عنوان طريف يقول بما يلي: عودة «الراج.
و«الراج هو المصطلح الذي ينصرف تاريخيا إلى النظام الذي أقامه الاستعمار الإمبراطوري في الهند عبر سنوات قاربت المائتين أو أكثر من السيطرة الإمبريالية على شبه القارة الهندية. يسجل للدراسة «الهندية المذكورة أنها أوضحت جانباً ربما لا يزال خافياً أو خافتاً بالنسبة لمراقبي شأن العلاقات بين الهند وبين الدول الكبرى في عالمنا الراهن. وفيما أصبح بديهياً ــ احتمال توطيد أواصر تحالف على مستوى من المستويات بين الهند وأميركا..
ولو من منطلق مصالح متبادلة من ناحية أو مصالح مشتركة ربما تجمع بين الشريكين المذكورين في مواجهة نفوذ صيني متصاعد باطراد أحياناً وربما بشراسة في بعض الأحيان، إلا أن الدراسة الهندية التي نتوقف عندها، ولو بإيجاز شديد، تشير إلى نمط جديد من التحالف الذي مازال ناشئاً بين الهند وبين فرنسا على وجه الخصوص.
دعوة ساركوزي
لا يدري أحد ما الذي كان يدور بخاطر الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي حين دعا مفرزة قوامها 400 عسكري من الجيش الهندي للمشاركة في استعراض في شارع الشانزليزيه احتفالاً بذكرى سقوط سجن الباستيل في عام 1789.
ثم يحاول الكاتب الهندي أن يجيب عن تساؤلاته حين يمضي قائلاً:
- أغلب الظن أنه كان لدى باريس أفكار أو مخططات ربما فاتت على واشنطن بالنسبة للعلاقات مع الهند.
بعدها يواصل راجا موهان تحليلاته فيضيف موضحا أن ثمة أبعادا باتت بارزة على مسرح السياسة الدولية الحالية، وهي تنبئ بعلاقة مهمة ومتنامية بين باريس ونيودلهي، فضلاً عن أن هذه العلاقة لم تكن لتقتصر على أمور أو قضايا تقليدية من قبيل التبادل التجاري أو زيارات المسؤولين أو حتى الشراكة الثقافية أو الفنية وما في حكمها.
النووي الهندي
إن علاقات فرنسا والهند إنما تغطي بالدرجة الأولى مجالاً مازال يعد من الأهمية بمكان وهو:
الطاقة النووية.
لقد شهدت السنوات القريبة الماضية ــ كما تضيف الدراسة المذكورة ــ محاولات وجهوداً متواصلة بذلتها فرنسا في دنيا العلاقات الاستراتيجية وسبقت بها أميركا ذاتها فكان أن ساعدت باريس الهند في إعادة التفاوض على موقعها في إطار النظام النووي الحالي في العالم..
وقد اقتضى ذلك من باريس أن توفر الغطاء الدبلوماسي حين وقفت الهند تتحدى العالم بإقدامها على إجراء تجارب واختبارات نووية منذ عشر سنوات أو أكثر (مايو 1998 بالذات) بل وعملت باريس على الترويج لفكرة تغيير قواعد الانتشار النووي المعمول بها عالميا، وذلك من أجل تيسير سبل التعاون بين فرنسا والهند تحت عنوان «الاستخدامات المدنية للطاقة النووية.
انفتحت أسباب التقدم وإمكانات الازدهار أمام الهند الحالية خاصة بفضل ما أحرزته كوادرها في مجالات البحث والتطوير وخاصة في دنيا الإنجاز الالكتروني ــ الحاسوبي حتى أصبحت تضم ثاني أكبر مركز للتطوير الحاسوبي في العالم بعد وادي السيلكون في كاليفورنيا، غربي الولايات المتحدة.
في ضوء هذا كله مازالت الدعوة متنامية في عوالم السياسة الأميركية الخارجية إلى التماس «الحليف المستقبلي في الهند. وهي دعوة تزداد إلحاحاً بل وتأكيداً.. مع ازدياد «الغريم» أو المنافس الصيني في عنفوان إنتاجه من سلع وخدمات وفي زيادة طموحاته نحو اتساع نفوذه لينافس أميركا على صعيد أسواق عالمنا.. ما بين أفريقيا جنوبي الصحراء إلى الأصقاع اللاتينية، جنوبي أميركا شخصياً.
عالم ما بعد أميركا
منذ سنوات قلائل نشر الكاتب الأميركي، من أصل هندي، فريد زكريا كتابه بعنوان «عالم ما بعد أميركا». وكان زكريا في هذا الكتاب يستشرف آفاقا تنبئ بأن مكانة الولايات المتحدة الأميركية بوصفها «القطب الكوكبي الوحيد من شأنها أن تؤول إلى تراجع وانسحاب، ويعزي ذلك، على نحو ما أكدت الأحداث بالفعل، إلى التراجع الاقتصادي الناجم في أميركا عن الأزمة المالية العالمية التي انطلقت من داخلها.
والتي تزامنت مع تأليف فريد زكريا كتابه المذكور. كما يرجع أيضا إلى ظهور منافسين جدد للمكانة الأميركية، ولاسيما في مجال البحث والتطوير، أو مجال غزارة الإنتاج الكثيف والمتواصل للسلع وتقديم الخدمات، حيث تمتعت الهند بالميزة الأولى في التطور البحثي والتقني، بينما تمتعت الصين بالميزة الثانية في غزارة إنتاجها الذي بات يغزو جميع أسواق العالم.
بما فيها السوق الأميركية، وكان هذا كله.. إما توازيا مع مكانة أميركا.. وإما خَصما من مكانتها العالمية التي طالما نعمت بها بعد إنهاء الحرب الباردة وزوال خصمها الرئيسي الاتحاد السوفييتي، فضلاً عن ازدهار أميركا الاقتصادي ولاسيما خلال حقبة بيل كلينتون الرئاسية على مدار عقد التسعينات من القرن العشرين.
والمهم أننا أصبحنا أمام عالم آخر جديد يتيح فرصة ظهور الأقطاب الجدد، ومنهم مثلاً الهند التي تلمح إحدى الدراسات إلى انه تربطها علاقات غير ظاهرة بما يكفي مع فرنسا وخاصة في المجالات النووية.
حيث ثبت أن «باريس وفرت ما تسميه تلك الدراسة بأنه الغطاء الدبلوماسي الذي كانت «نيودلهي بحاجة إليه من أجل تأكيد مكانتها في النسق العالمي بوصفها قوة نووية يعتّد بها، إضافة إلى أن الهند مازالت تواصل إنجازاتها في مجالات البحث والتطوير بالذات بحيث تأكدت بالتالي مكانتها في هذا المضمار وباتت تضم ثاني أكبر وأهم مركز لتكنولوجيا المعلومات في العالم.
كما ذكرنا أنه منذ أكثر من سنتين أصدر الكاتب الأميركي، الهندي الأصل «فريد زكريا كتابه المهم بعنوانه الشهير وهو: عالم ما بعد أميركا.
وبديهي أن جاء العنوان ليومئ في لمحة خاطفة وذكية إلى معنى طالما حرص الساسة الأميركيون على تجاهله أو صرف النظر عنه أو تأجيل النظر فيه على مدار السنوات التي تفصل بين تسعينات القرن الماضي والسنوات العشر الأولى من هذا القرن الجديد.
وبديهي أيضا أن استهل العقد التسعيني المذكور سنواته الأولى وسط موجة كانت عارمة بالأمل بقدر ما كانت مفعمة بالتفاؤل بشأن أميركا ودورها ومدى تأثيرها على مقاليد العالم الذي تعيش فيه.
وبديهي كذلك أن كان المقصود هنا هو عالم ما بعد الحرب الباردة التي سجلت فيها أميركا، بوصفها زعيمة معسكر الغرب الرأسمالي، فوزها على المنافس الشرقي الاشتراكي ــ الشيوعي، الاتحاد السوفييتي.
وتجسدت حقيقة هذا الفوز ــ كما يعرف الجميع ــ في سقوط وزوال الدولة السوفييتية العظمى وانهيار المعسكر الإشتراكي وحلف وارسو، فيما تجلت هذه الحقيقة أيضا في نجاح التحالف الإقليمي العسكري الذي قادته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق «جورج بوش ــ الأب في المعركة التي حملت يومها عنوان «تحرير الكويت من غائلة الاحتلال الأحمق الذي شنه على الشقيقة العربية النظام السابق في بغداد.
هنالك انتعشت الآمال في أن يصعد الطرف الأميركي إلى سدّة القوة الفريدة ــ أو القطب الأوحد في عالم ما بعد غروب القرن العشرين.
مع هذا كله ــ فنحن لا نزال على تصورنا بأن ارتفاع شأن القطب الأميركي لم يكن مصدره فقط انهيار واختفاء الغريم السوفييتي، الذي نرى أيضاً أن انهياره إنما يرجع بالدرجة الأولى إلى تمسكه بالنظريات الاقتصادية ــ الاجتماعية الخشبية بمعنى الجامدة وبعضها يعود زمنيا إلى مواريث القرن التاسع عشر (من ذلك مثلاً بيان «كارل ماركس الشهير الصادر في عام 1848) .