١٥ محرم ١٤٣١

العرب والصين.. المصاحبة الحضارية والمشروع النهضوي

يشتمل كتاب العرب ومستقبل الصين: من اللانموذج التنموي إلى المصاحبة الحضارية للباحث الأردني سامر خير أحمد، على مقدمة تاريخية عن الأزمة الحضارية والمشروع النهضوي منذ القرن التاسع عشر، وفصلين مطولين يتناول الأول خصائص التطور في الصين المعاصرة ومشاكله، وآفاق التحول منذ الثورة الصينية وقيام الجمهورية 1949.يشير الكاتب في هذا الفصل إلى المحطات الكبرى في تاريخ الدولة والحزب والشعب الصيني: كالثورة الثقافية، والقفزة الكبرى، وبناء الاشتراكية. ودور الأيديولوجيا والصراع السياسي والفكري مع الاتحاد السوفياتي، والماركسية الروسية. ويشير لطبيعة الاشتراكية والصراع بين الأجنحة المتنافسة في الحزب الشيوعي والدول الصينية.كما يشير لطبيعة النموذج النهضوي الصيني الذي سماه: اللانموذج . وهو في حقيقته نموذج صيني خاص لم يستعر أو يستسلم للنماذج الجاهزة لا بالشرق ولا بالغرب. ونهج نهجا خاصا في بناء الاشتراكية.يظهر الباحث براعة تحليلية في تخطيطه المنهجي لفهم النهوض الصيني الذي رصده عن كثب إبان زيارته للصين. وقد سيطر على موارده المعرفية من مراجع وملاحق وبيانات إحصائية. وانتقل من الإعجاب بالنهضة الصينية وتوصيفها إلى تحليلها ونقدها، للاستنارة بها مستقبلا في البحث عن مخرج من مأزق النهوض العربي، انسجاما مع رسالته التي استهل بها الكتاب قائلا إن هذا الكتاب يندرج في إطار جهود النقد الحضاري لأزمة مشروع النهضة العربية المتعطل منذ عقود عدة .أما الفصل الثاني في الكتاب الصادر عن دار ثقافة للنشر والتوزيع 2009، فتحدث فيه الباحث عن مشروعه النهضوي، وهو المصاحبة الحضارية، الخيار الوحيد للعرب للاستفادة من الصين، وتحقيق النهضة المنشودة. ويورد الكاتب كيفية الاستفادة من النهضة التجارية والنفعية والانتقال إلى إرساء قواعد العلاقات الحضارية والإستراتيجية بين الطرفين.وسيتركز التحليل هنا على مقولتين: رؤية الباحث لمشروع النهضة العربية، والمصاحبة الحضارية.أما الأولى فيرى الباحث أن رفاعة الطهطاوي هو المفكر المؤسس للمشروع النهضوي العربي، مسترشدا بآراء باحثين سابقين ومنهم د.أحمد ماضي، وعزت قرني، والمستعرب الروسي ليفين، لكن أخطر فرضيات الباحث ونتائج بحثه في مشروع النهضة العربية قوله: نشأ المشروع النهضوي العربي براغماتيا، يبحث عن الحقيقة أيا كان مصدرها، ولا يتوانى عن الإشادة بنجاحات الآخرين، والدعوة للاستفادة منها .وفي الصفحة التالية يكمل توصيف هذا المشروع فيقول: ما يجب ملاحظته والتأكيد عليه أن تلك البراغماتية التي قام عليها المشروع النهضوي العربي لم تكن من النوع التلفيقي المتردد الذي يحاول الجمع بين الأضداد عنوة، بل كانت براغماتية واعية، أدركت عدم وجود تناقض أساسي بين أنظمة الأوروبيين وجوهر فلسفة الإسلام وغاياته الاعمارية، فانطلقت منهما معا، من دون سعي توفيقي كونهما في نظرها متوافقين ابتداء. ما كان يحول بين تلك البراغماتية والوقوع في شرك التردد والانتهازية أنها كانت ترى في تحقيق هدف ثابت لا يتغير هو إنجاز النهضة، فكانت براغماتيتها مقيدة، لها أفقها الذي لا تتجاوزه .لكن التجربة التاريخية والممارسة النظرية للنقد الحضاري والتحليل الإبستمولوجي لخطاب النهضة العربية، أثبتت جميعها أن مشروع النهضة العربية في سياقه الموضوعي كان مشروعا تلفيقيا وأيديولوجيا بامتياز، فقد تحكم الانبهار والدهشة والشعور بالعجز باستجابة المثقفين العرب الذين عاينوا التقدم الغربي، واتبعوا منهج المقايسة والمماثلة لفهم أوروبا، وانتزعوا إنجازاتها الحضارية من سياقها الموضوعي للتحكم فيها، ونقلها نقلا تعسفيا لبيئة مغايرة، من دون الالتفات لشروطها أو الاهتمام بمقدماتها الحضارية التي أنجزتها، وهي عبارة عن حزمة من الثورات والتراكمات منذ عصر النهضة الأوروبية، وحتى مرحلة ما بعد الحداثة.ويكمن جوهر إشكالية خطاب التنوير العربي في تفريغ قيم الحداثة أوروبية ومنجزاتها المادية من مقدماتها العقلية والتحررية، وفصل القطائع المعرفية والتراكم الذي صنع الحداثة الأوروبية عن سياقه التاريخي؛ أي فصل الدين عن الدولة، وتحقيق العلمنة والثورة العلمية والعقلية والتحرر الشامل والفردية والاستقلال الذاتي، فتصور المثقف النهضوي أن نقل بعض الأفكار التحررية وتبنيها وتطعيم مؤسساته التقليدية بتلك المنجزات كفيل بتحريك عجلة النهوض وإنجاز النهضة، فكان التلفيق الذي ساهم في تقوية الدولة الاستبدادية، وإعادة إنتاج التقليد، وأنجز ما أسماه هشام شرابي: المجتمع التقليدي المستحدث.وتصور المفكر النهضوي العربي -وهو المثقف الذي أولى الفكر والتعليم أهمية قصوى في تحقيق النهضة متأثرا برجال التنوير الفرنسي الذين أولوا التربية والتعليم أهمية بالغة- تصور متوهما قدرة الأفكار التحررية على تحقيق نفسها بصرف النظر عن الحوامل الاجتماعية القادرة على تحويلها إلى برامج عملية أو أفكار تداولية كالطبقة أو الدولة الحديثة، وبرزت نواقص الخطاب النهضوي وتطبيقاته العملية كما يقول المفكر المغربي كمال عبد اللطيف في كتابه الصادر حديثا أسئلة الحداثة في الفكر العربي : الطابع التجزيئي الذي حول الرؤية السياسية الحداثية إلى جملة من المعارك الجزئية المرتبطة بقضايا مفصولة عن حواملها الفكرية، حيث لا نعثر في هذه المعارك على أي عناية بالمرتكزات والأسس الفلسفية المؤسسة لمشروع الحداثة والتحديث السياسي، فقد انشغل المصلحون بموضوعات تندرج في صلب الحداثة السياسية، وأغفلوا مبدأ العناية بالأصول الفلسفية الكبرى للرؤية الحداثية والمؤسسة لها. ويتطلب ذلك التخلي عن المنزع التوفيقي الذي ساهمت في تأسيسه الخيارات ذات المنحنى السلفي والمواقف المهادنة لها بمبرر مراعاة متطلبات التدرج التاريخي والمرحلي في عمليات التغيير .فكان أن فشل مشروع النهضة في تحقيق ذاته بهذا الشكل، وفشل أيضا في ردود أفعاله لتصحيح المسار بتبنيه الشامل للمشروع الغربي، فلا الانتقاء الذي نادى به المتنورون المسلمون، ولا التغريب الشامل الذي روج له الليبراليون، وعلى رأسهم طه حسين وسلامة موسى وفرح أنطون. أما التيار السلفي الذي نادى بالعودة إلى التراث، فقد سقط أيضا لعدم واقعيته، واستحالة استعادة نموذجه القياسي، فكل تلك النماذج النهضوية كانت وما تزال مفارقة وغير مطابقة للواقع وسلفية في تحليلها الأخير، وحتى في المنهج الوسطي المتأخر الذي جاء كرد فعل للإقصاء المتبادل بين الحداثة والتراث، الذي بشر به زكي نجيب محمود في جدلية الأصالة والمعاصرة، الذي أراد إحياء التوفيقية، فشل في تحقيق مشروعه، وظل التلفيق والتغريب وعدم الحسم سيد الموقف في الحياة العربية الفكرية والسياسية، وبقيت الأصالة والمعاصرة قائمة حتى مل الباحثون منها.فليس خطاب الحداثة الأوروبية ومشروعها الثوري بالهشاشة والسلبية التي توهمها المثقف العربي لتفكيكها وتصنيفها إلى سلبيات وإيجابيات، فما يراه سلبيا هو جزء لا يتجزأ من كليتها ونتاجها الموضوعي والتاريخي، ويخضع لمنطقها وسيرورتها الداخلية.أما البراغماتية التي وصف بها الباحث خطاب النهضة، فلم تكن إلا التجريبية بلا مبادئ التي تحكمت وتتحكم بالخيارات التنموية والاستعارات الحضارية منذ الصدمة الحضارية في القرن التاسع عشر حتى الآن.وقد ظهرت هذه التجريبية أو قدمت نفسها بمنتهى البراءة والحياد لأسباب موضوعية، أهمها استباق تبلور الأيديولوجيات النهضوية والتيارات العقائدية في نهاية القرن التاسع عشر. وباختصار فقد فشلت النهضة العربية في تحقيق نفسها، وتسويغ فشلها علميا لأسباب إبستمولوجية أولا، تتعلق ببنية الخطاب النهضوي وآفاقه المستحيلة كخطاب أيديولوجي سجالي، يستهدف التغيير قبل التحليل، والإيمان بالقضية النهضوية قبل نقد مقدماتها وواقعها الموضوعي. وانزلق خطاب النهضة من فلسفة التاريخ إلى الأنثروبولوجيا والأخلاق.وفي تحليله للرد على الاستعمار، يشير الباحث سامر خير إلى أن الرد كان أيديولوجيا من دون إشارة توضيحية لمعنى هذا الوصف أو أبعاده السياسية. ويمكن القول إن الخطاب كان أيديولوجيا في مرحلة معينة، فتجاوز شروطه العلمية المسوغة لذاته بتجاوز التحليل والسببية والدوران في إطار ماهية النهضة وضرورتها، أما الصيرورات والآليات والتراكم، فظلت غائبة، أو خضعت للتبسيط المخل بتماسك الخطاب، الذي لم يعد مطابقا إلا لذاته من خلال استناده إلى نماذج سلفية مستمدة من التراث العربي أو التراث الأوروبي. وانقلب أخيرا إلى يوتوبيا ترنو لبناء مستقبل بأدوات ماضوية مستعارة من التراث أو حقبة التنوير الأوروبي، الذي تجاوزه فكر الغرب المعاصر.أما مفهوم المصاحبة الحضارية -وللباحث هنا ملكيته الفكرية- فقد استعمله خير بديلا عن مصطلحات الشراكة والمساعدة الأخوية التي استنفدت أغراضها واستهلكت من فرط الاستعمال. وتاليا وقفة عند شروط المصاحبة الحضارية بين العرب والصين ودلالتها.يسوغ الباحث أولا ضرورة مصاحبة العرب للصين بعزوف الغرب الإمبريالي عن مساعدة العرب بالنهضة والتقدم، وعدم وجود أي أطماع استعمارية للصين في البلاد العربية، ويرى سامر خير في المصاحبة الحضارية الإمكانية الوحيدة للأمم المتأخرة (العرب) لإقامة تحالفات حضارية مع الأمم التي تفوقها تحضرا.. كي تستفيد مما لديها من منجزات من موقع الشريك لا من موقع المستهلك .ويشترط الباحث لتحقيق هذه المصاحبة امتلاك الأمة المتأخرة -ويعني العرب- الإرادة الوطنية المستقلة والقيادة الواعية المخلصة القادرة على صياغة مشروع نهضوي، مما يلزم الأمة المتقدمة (الصين) بخطة الدفاع عن الحاجات الملحة للأمة المتأخرة وحمايتها من الضغط الخارجي، ومساعدتها على تسريع خطوات التنمية فيها.ولكن؛ هل تقبل الصين هذه المصاحبة الحضارية؟! وإن قبلت، فبأي شروط؛ الصينية أم العربية؟.يطرح الباحث هذه الأسئلة ولا يجيب عنها مباشرة، بل يفهم ضمنيا أن الأمر يتعلق بتحقيق مصالح مشتركة للطرفين، بعد أن تحولت خيارات الصين من الأيديولوجيا إلى المصالح الاقتصادية والتنمية والبراغماتية، فما تحتاجه الصين من العرب الآن ومستقبلا هو النفط والاستثمارات والدعم السياسي في المحافل الدولية الذي يصفه الباحث ب المتواضع ، أما ما يحتاجه العرب من الصين -وغير الصين- فهو التكنولوجيا المتقدمة لتحقيق النهضة والتقدم.أما أهم شروط هذه المصاحبة فهو إنجاز سيادة عربية جماعية -وكأنه يقول بالحد الأدنى من الوحدة والعمل الجماعي- على الموارد والقرارات، وهي الشرط المؤسس لتنمية غير تابعة لتبادل المصالح بين العرب والصين. والأهم من ذلك أن العرب في وضعهم الراهن -كما هي الصين- غير جاهزين لتحقيق المصاحبة الحضارية رغم توفر القاعدة المثالية للانطلاق والإنجاز.لهذا، فخلاصة رأي الباحث أن المصاحبة الحضارية رهان مستقبلي ومشروع مؤجل حتى تحقيق شروط انطلاقها عند الطرفين، وتحويل العلاقات التجارية والاقتصادية القائمة حاليا إلى مصاحبة حضارية حقيقية. هذه الرؤية المنهجية والنموذج التفسيري للباحث يحتاجان للنقد والتحليل، فتصوره للعلاقات الدولية بهذا الشكل تصور ميكانيكي، وسيحيل إلى هذه النتائج والتصورات كمحصلة للتراكم الطبيعي للعلاقة الثنائية من دون أدنى اعتبار للمفاجآت والمؤثرات والقطائع الديناميكية مع الأطراف الأخرى في جيوبوليتيك العالم المعاصر.فليس العرب ولا الصين بمعزل عن التفاعلات الإقليمية أو الدولية المؤثرة في كل من منهما، فإسرائيل والولايات المتحدة وروسيا ودول الجوار الإقليمي للعرب، إيران وتركيا، ودول الجوار الإقليمي للصين، كلها وحدات سياسية فاعلة وديناميكية كمحاور وأقطاب جيواستراتيجية مؤثرة في العلاقات العربية الصينية، وبالتالي فالمراهنة على المستقبل لبناء مصاحبة حضارية مراهنة محفوفة بالمخاطر والأحلام.فسيناريوهات مستقبل العرب حسب معطيات الحاضر لا تبشر بالخير، فهم لا يملكون مستقبلهم ولا استقلالهم الذاتي. السؤال الذي يطرح نفسه: هل بمقدور الصين مصاحبة الضعفاء والمتأخرين لتحقيق نهضتهم إذا تضاربت مصالحها الإستراتيجية وقيمها العليا مع الأقطاب والمحاور المؤثرة؟!.هذا ما عبر عنه سابقا د.أنور عبد الملك الذي طرح موضوع الشراكة مع الصين لتحقيق التقدم والنهضة، أو استباق العرب وغير العرب وعقد شراكة أميركية صينية كما طرحها مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق بريجنسكي لاحتواء زخم الصين وتقليل مخاطره على النفوذ الأميركي الآخذ بالتداعي مع صعود الأقطاب الأخرى.أما توفر الإرادة الحرة والسيادة العربية الجماعية وتوحيد المصالح والسياسات الخارجية والقيادة التاريخية، الواعية، القادرة على صياغة مشروع نهضوي عربي، لإنجاح مصاحبة حضارية مع الصين، فتدخل في باب الأماني والآمال ودلالاتها السياسية تعطيل مشروع النهضة ما دامت حركة الواقع العربي تسير إلى الوراء على صعيد الحاكمية والمشاركة السياسية. فمن أين للعرب قيادة بصلابة الزعيم ماو تسي تونغ وإرادته؟ أو برؤية دنغ شياو بنغ الثاقبة لمشكلات الصين، وأين هي إرادة الأحزاب والحركة الشعبية كجيش التحرير الصيني الذي واصل مسيرته الكبرى خلف قيادته عشرة آلاف كيلومتر لتحقيق النصر والتحرير؟.طرح الموضوع بهذا الشكل يعني منطقيا مصادرة على المطلوب، فشرط النهضة وسببها الاستقلال الذاتي والإرادة الحرة والقيادة الواعية، وسبب هذه الخصائص هو تحقيق النهضة نفسها.وعودة للموضوع الفكري: ألا يمكن للعرب تعديل موازين القوى مستقبلا، إن كنا متفائلين، وإعادة النظر في شروط التبادل مع الغرب والبدء بنهضة على أساس التوافق بدلا من التعارض؟! وهل من المستبعد إحداث أو حدوث تغيرات دراماتيكية في مراكز القوى الكبرى تنعكس إيجابا على موقع العرب وحضورهم في العلاقات الدولية؟.المصاحبة الحضارية في جوهرها شراكة كاملة، وتكافؤ وتوازن مصالح، واحترام متبادل لتعظيم مصادر القوة وتخفيضها عند الخصم. فجوهر العلاقات الواقعية بين الوحدات السياسية في العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية قائمة على الصراع والقوة، وليس هناك دولة مهما كانت مواردها تتساهل مع غيرها من دول العالم وتتركها تنمو لتتفوق عليها، حتى لو كانت دولة صديقة أو حليفة. والصين دولة كبرى لها حساسيتها ويقظتها الثورية وحسها الوطني والحضاري. وقد امتلكت أدواتها للسيطرة على حاضرها ومستقبلها.بعكس ما يصرح به عنوان الكتاب، فالأجدر تحقيق الإزاحة وتعديل العنوان لتستقيم دلالته الحقيقية المطابقة للواقع، ليصبح الصين ومستقبل العرب من النموذج الصيني إلى اللانموذج العربي .فالنموذج الأصيل يعني امتلاك الرؤية والإرادة والأفكار التداولية القابلة للتحويل إلى واقع، والانطلاق لبناء مشروع نهضوي شامل يلهم الآخرين ويزودهم بالإرادة والأمل بالنهضة والانتصار.

أهم الأخبار

اليوم السابع

عشق الصين

سجل الزوار