٢٦ ربيع الآخر ١٤٣١

الصين ومنهج المحارب ... بقلم د.محمد أبو الخير


تتطور الصين تطورا كبيرا وسريعا وتنطلق بسرعة فائقة، لهذ أصبحت كل الأمم تنظر إليها منبهرة. أصبحت الصين تلعب دورا رئيسيا فى تشكيل العالم إقتصاديا وسياسيا ـ بعد تفكك الإتحاد السوفيتى عام 1991 ـ ولقد أصبح نفوذها قوى على الساحة الدولية. وفى ظل الأزمة الإقتصادية العالمية تظل الصين صامدة فى مواجهة الأزمة! تساؤلات تتردد كثيرا عن سر قوة الصين؟ ما هو الفكر وراء نهضة التجربة الصينية؟ من أين هذا التطور السريع؟ كيف حدث ذلك؟ وما هى العناصر التى إعتمدت عليها؟ كيف أجبر الصينيون الآخرين على النظر إليهم بتقدير واحترام واعتبار؟

أرقام المارد الصيني أحدثت هزة فى السوق العالمى، حيث وصل إجمالى الناتج المحلي للصين في العام الماضي 2005 إلى 2710 مليار دولار أمريكي، هذا يعني أن الصين أصبحت خامس أكبر كيان اقتصادي في العالم، بالإضافة إلى أن أحدث تقرير للبنك الدولي وضع الصين في مرتبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، والصين أيضا تصل لمعدلة تنمية حوالى 10 % سنويا، ويظل الصينيون شعبا مجتهدا، وتشير التقديرات إلى أنه إذا واصلت الصين السير بنفس الخطى على طريق التنمية فإن حجم الاقتصاد الصيني فى المستقبل، يمكن أن يصل إلى 30% من حجم الاقتصاد العالمي عام 2030، أي أنه سيتجاوز نصيب اليابان ويقترب من نصيب الولايات المتحدة.

إن الصين بلد صاحب حضارة قديمة على المستوى التاريخى، وأصحاب الحضارات لهم تراث إنسانى يظل معهم فى عاداتهم وتقاليدهم لا ينفصل عنهم مهما تطورت مفردات الحياة، إنه توارثا روحياً للتراث يظل فى سمات الشعوب، ومن هذا التراث الثقافى العريق فى الصين كتاب " فن الحرب " لسون تزى ـ وهذا الكتاب منشور من خلال المجلس الأعلى للثقافة، ترجمة هشام موسى المالكى، فى المشروع القومى للترجمة ـ والكتاب يشرح أمثلة واقعية عن تطبيق فنون الحرب المختلفة وكيفية التعامل مع العدو والإنتصار عليه. كتب سون تزى هذا الكتاب عام 500 قبل الميلاد تقريبا، وعلى الرغم أن مضمون الكتاب وفلسفته تحتوى على شروح فى وضع الخطط الحربية والإستراتيجية للقتال، إلا أن هذا الكتاب تجاوز المجال الحربى لتطبيق نظرياته إلى المجالات الإنسانية المختلفة مثل الإقتصاد والسياسة والتعليم والطب والرياضة والإدارة وغيرها من المجالات المختلفة. ومن هنا أصبح هذا الكتاب ذو أهمية بالغة على المستوى الصينى وأيضا على مستوى الفكر الإنسانى العالمى.

لقد كان لهذا الكتاب تأثيراً كبيراً على قادة الصين باعتباره كتابا مقدسا أولوه عظيم اهتمامهم، لأنهم أدركوا قيمته الفكرية التى يمكن أن تطبق فى مناحى متعددة للنشاط داخل المجتمع، فأخذ القادة يتعاملون مع تنمية الإقتصاد القومى من منظور " فن الحرب " ما هى مشكلات الناس؟ ما هى المعلومات المطلوبة؟ ما هو الهدف فى المرحلة القريبة؟ ما هو الهدف للمرحلة البعيدة؟ ما هى قدراتنا المادية والبشرية؟ كيف يمكن تحقيق المكاسب دون خسائر؟ كيف يمكن المنافسة؟ كيف يمكن غزو الآخرين؟ كل ذلك دون ضجيج، كل ذلك فى صمت، كل ذلك وفى هدوء، إنه كتاب " فن الحرب " الذى يوضح كيفية تحقيق النصر على الأعداء دون قطرة دم، ودون تحريك لجندى واحد؟ إنه التخطيط الذى يدعو القائد إلى قياس دقيق يحدد مقدار القوة أو ضعفها، وحساب إمكانية الخروج من المعارك بنصر أو هزيمة طبقا لمبادىء خمسة، وهى: 1- السياسة 2- المناخ 3- الجغرافيا 4-مواصفات القائد 5- القوانين التى يجب إتباعها، يقول سون تزى " العاقل من يتمكن من سياسة العامة وتوحيد عزيمتهم على قلب رجل واحد مع القيادة، ويكون ذلك عن طريق توحيد الفكر والعزيمة والمنفعة.

من هنا يتحصن العامة بقوة هائلة تدفعهم إلى تلبية نداء الحرب وخوض غمار المعارك ببسالة، دون مهابة التعرض لأهوالها ومخاطرها، ويتمكنون من اغتنام النصر أو الشهادة من أجل وطنهم، وهذا ما يمكن أن يطلق عليه "تهيئة الظروف النفسية للمحاربين ". وانطلاقا من هنا رفعت الصين راية التحديث، وبخاصة بعد إصلاح وانفتاح عام 1978، وعبأت المجتمع بهذا المفهوم، لكى يتحدى كل الظروف التى قد تعوقه عن الوصول لتلك الغاية، أصبح شعار التحديث هو المفتاح والخيار الوحيد لتطوير الصين فى المستقبل، ومن هنا أدرك المجتمع بكل فئاته أنه لا يوجد سوى طريق التحديث لكى يتم التغلب على الفقر والتخلف والدخول فى المنافسة العالمية، لذلك أخذ المجتمع هذه الحركة بكل قوه وجدية فى إعادة البناء لمعانى جديدة فى عملية التقدم وأصبحت " قيمة العمل المتقن والمستمر" واحده من القيم الكبرى فى نسيج الحياة اليومية للشعب الصينى وفى كل الأنشطة التى يمارسها، مما دفعه إلى مزيد من الإنتاج والذى إنعكس بدوره على الواقع الإقتصادى، ومن ثم على ملامح المجتمع الصينى الذى شهد جوا من الإنتعاش والحيوية.

إن " الأسلوب المائي " نهج صينى فى كتاب " فن الحرب " حيث ينساب الماء على الأرض بهدوء شديد متجاوزا كل العقبات التى تقابله ومتشكلا بطبيعة الأرض فى انحناءاتها وتموجاتها بما يتناسب مع الحيز المكانى الذى تتحرك فيه، فالمياه ليس لها شكلا محددا، وإنما تتشكل حسب متغيرات الموقف. والماء أيضا يولد قوة كبيرة رغم كونه مادة هادئه سلسة ، إلا أنه عندما ينحدر من مكان مرتفع يمكنه أن يقتلع الصخور من أماكنها بل ويسوقها أمامه. إن تحرك المنتجات الصينية والمصانع الصينية على مستوى العالم يسير بمنطق الماء، سرعة وإنسيابية وقوة هادرة تدفع من أمامها من سلع ومنتجات لكى تأخذ مكانها، وهذا لأنهم فهموا طبائع البشر، وإحتياجات السوق، أى طبيعة الأرض والمكان والزمان والشخصية، وأنتجوا بكل جدية سلعة رخيصة يمكنها أن تنتشر سرعة البرق، فوصلوا للعالم بهدوء.

ومبدأ أساسى من مبادىء كتاب " فن الحرب " هو " السبق إلى المعرفة يحقق النصر " يوضح سون تزى أن من يريد أن يحصل على النصر فى معركته عليه أن يعرف أولا، وتكون هذه المعرفة جيدة، ويستمر فى تطوير معارفه حتى تكون مواكبة للأحداث والمتغيرات، حتى يمكنه إتخاذ القرار السليم، نعم، المعلومات هى المادة الحقيقية لإتخاذ القرار، وهى النور الذى يهدى إلى الطريق السليم، المعرفة قوة، لذلك اخذت الصين فى تطوير التعليم بكل مراحله، وأخذت الصين أيضا خطوة جادة فى سياسة الإستعانة بالعلماء الذين يعملون فى الخارج وبخاصة الحاصلون منهم على جوائز نوبل فى المجالات المختلفة الكيمياء الفيزياء الطب ...وعلى سبيل المثال عالم الصواريخ الصينى ليانج شوبان والذى عاد إلى الصين وكان قد حصل على جائزة نوبل فى الفيزياء ، وقد آثر أن يعود لبلاده والمساهمة فى تقدمها ورقيها تاركا وراءه كل المغريات، لقد وفرت له الصين المناخ العلمى من معامل وأجهزة لحديثة، والمكتبات التى بها المراجع والأبحاث القيمة، وفريق العمل الذى يؤدى دورة فى منظومة جماعية، هكذا لم تتبدد طاقات العلماء فى مهاترات بيروقراطية، أو معوقات تدفع للكسل، وإنما التسهيلات نحو الإبتكار، نحو الرقى، نحو إنجازات للوطن الصين.

ومن الغريب حقا أن الصينيين لا يعتبرون ما تحققه بلادهم إعجازا بل يصرون على أن بلادهم دولة نامية، وأحيانا أقل من نامية، وليست قوة عظمى، وإنما بلد يحاول أن يحسن من قدراته، هل هذا نوع من التمويه والذكاء لكى تبتعد العراقيل من طريق تقدم الصين للأمام، فالقوى الكبرى تحب أن تنفرد بالقوة وحدها، نعم، والصين لا تريد أن تدخل فى منطقة صراع تحيد بها عن طريق التحديث، وتجرفها إلى مهاترات تكلفها الكثير من إستنفاذ وهدر الموارد والوقت. على كل الأحوال الذكاء والدهاء له باب فى كتاب سون تزى " فن الحرب " حيث يقول " من الضرورى إخضاع العدو بصورة كاملة مع الحفاظ على قوة الجيش المحارب دون خسران شعرة بعير واحدة، بمعنى إطلاق العنان للدهاء والذكاء كأدوات لإحراز النصر بدلا من القوة العسكرية، واستبدال الحروب التى تعتمد على السلاح والعنف بنوع آخر لا ينزف فيه أى جندى قطرة دماء واحدة، فيجب أن يتصارع الذكاء بدلا من تتصارع القوة" . أحسنت أيتها الصين، ما أحوج العالم لرؤية تبنى وتدفع لنهضة ورقى للمجتمع الإنسانى.

أهم الأخبار

اليوم السابع

عشق الصين

سجل الزوار