٠٦ جمادى الأولى ١٤٣١

أوباما و إيران: استحضار النموذج الصيني



مع تنامي حال عدم الثقة وانسداد الأفق أمام حوار جدي جرى التعبير عنهما بوضوح في «العقيدة النووية الجديدة» للولايات المتحدة والرد الإيراني عليها، يعتقد خبراء أميركيون ان بلادهم وصلت، بعد سنوات من الشد والجذب، الى مفترق الطرق الذي كانت تحاول دائماً تجنبه وهو إما القبول بإيران نووية مع ما يعنيه ذلك من تداعيات استراتيجية على مجمل المصالح الأميركية في منطقة الخليج والشرق الأوسط، أو اللجوء الى الخيار العسكري مع ما يترتب عليه من مخاطر تشمل حجم وقوة ردود الفعل الايرانية. وعلى رغم صعوبة ادراك نيات الادارة الأميركية على وجه الدقة، باعتبار ان التصريحات العلنية تستخدم كجزء من استراتيجية تضليل مقصودة حيناً، وتشكل أحياناً جزءاً من حرب نفسية، الا انه يمكن مع ذلك التنبؤ بما ينتظرنا من تطورات خلال الشهور المقبلة في الملف النووي الايراني على وجه التقريب.

تحاول الولايات المتحدة منذ سنوات استخدام الضغوط على ايران لدفعها الى التسليم بمطالبها المتعلقة بالبرنامج النووي، وحتى تكون هذه الضغوط فاعلة تسعى واشنطن خلال هذه الفترة الى بناء توافق دولي على موضوع العقوبات، في حين انها تحاول من جهة اخرى جعل هذه العقوبات قاسية الى المدى الذي يدفع ايران الى التجاوب (الضغط الديبلوماسي المتعدد الاطراف).

لكن الصين لن توافق على مثل هذه العقوبات على ما يبدو، فهي تحصل على 11 في المئة من احتياجاتها النفطية المتنامية من ايران، كما صرحت اخيراً انها لن تشارك في حظر تصدير البنزين حتى لو جرى اقراره في مجلس الامن. اما روسيا فما زال موقفها غير واضح، اذ اعلنت انها قد تشارك في فرض عقوبات على ايران خلال مرحلة معينة لكنها لم تحدد متى وكيف وعلى ماذا.

يبقى الخيار العسكري والذي تعترضه هو الآخر مشكلات كبيرة. فمن جهة، هناك صعوبات لوجستية ترتب مخاطر جمة على استخدامه، ثم ان احتمال الفشل قائم، فضلاً عن الاستعداد للمجازفة بتلقي ردود الفعل الايرانية التي يرجح ان تكون قوية، من جهة اخرى. فإيران قد ترد على اكثر من جبهة، في العراق الذي تسعى واشنطن الى تحقيق قدر من الاستقرار فيه يسمح لها بسحب قواتها، كما ان قدرتها على اغلاق مضيق هرمز من خلال زرع الالغام او من خلال اصطياد السفن المعادية بالصواريخ، قائمة وتتعزز. اغلاق مضيق هرمز حتى لفترة قصيرة سيؤدي الى قطع خطوط امداد نحو 40 في المئة من احتياجات السوق العالمية من النفط، ما قد يرفع الاسعار الى مستويات غير مسبوقة في وقت تحتاج الاقتصادات العالمية الى التعافي من ارتدادات الازمة المالية والاقتصادية الراهنة.

ايران تدرك ان قدرات الردع التي تمتلكها ستدفع بالولايات المتحدة الى التفكير مطولاً قبل ان تقرر استخدام الخيار العسكري، وللأسباب نفسها ستقوم بمنع اسرائيل من ارتكاب أي حماقة أيضاً. إدارة اوباما تدرك في المقابل انها تعاني مأزقاً حقيقياً، فإما ان تقبل بإيران نووية او تخاطر بعمل عسكري غير مضمون النتائج، ما يرجح، بحسب خبراء أميركيين، انها في صدد سياسة تقتصر اهدافها على تأخير حصول ايران على التكنولوجيا النووية ما أمكن قبل ان تعترف بذلك كأمر واقع كما فعلت مع الهند وباكستان عام 1998.

واضح ان ادارة اوباما علقت في البدء آمالاً على الحركة الاصلاحية التي تبلورت بعد الانتخابات الاخيرة لإجراء تغيير ما في ايران، لكن املها خاب بعد ان اتضح لها مدى قوة النظام وقدرته على احتواء الاضطرابات. وتعد ايران في الوقت الراهن القوة العسكرية الأكبر في منطقة الخليج، يعززها غياب قوة اقليمية اخرى تستطيع الولايات المتحدة دفعها نحو صراع يؤدي الى احتوائها كما حصل مع العراق سابقاً. حاولت واشنطن اقناع تركيا بأداء دور موازن للنفوذ الايراني، لكن تركيا رفضت، لا بل ذهبت باتجاه تحسين علاقاتها السياسية والاقتصادية مع طهران. امام هذا الواقع بدأ البعض في واشنطن يضغط باتجاه احتفاظ الولايات المتحدة بوجودها العسكري في العراق وتجاهل المواعيد الزمنية للانسحاب كما نصت عليها الاتفاقية الامنية الموقعة مع حكومة بغداد نهاية 2008.

فاستقرار المصالح الاميركية في الخليج كان يقوم دوماً على أساس الحفاظ على موازين القوى بين القوتين الاقليميتين الرئيستين (العراق وايران) إما حرباً او احتواءً. وعندما اختل الميزان عام 1990 حصل «الغزو العراقي» للكويت، فيما لم تحاول الولايات المتحدة خلال حرب «تحرير الكويت» الدفع باتجاه اسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين خشية ان يؤدي ذلك الى الاخلال بموازين القوى لمصلحة ايران. على العكس، حاولت واشنطن ترميم الموازين التي اختلت بعد هزيمة العراق عام 1991 كبديل لاحتفاظها بجزء كبير من قواتها في المنطقة. وعندما قررت ادارة بوش الابن غزو العراق عام 2003 انطلقت من فرضية انه سيكون في مقدورها استبدال النظام القائم بسرعة بنظام جديد يشكل «متراساً» في وجه النفوذ الايراني، فكان ان حصل العكس، ما اضطر الولايات المتحدة الى الاحتفاظ بوجود عسكري كبير لها في العراق.

ويعد العراق الى جانب الملف النووي النقطة الاساس في الخلاف الأميركي – الإيراني، فإيران تريد انسحاباً أميركياً من العراق لأن استمرار وجودها العسكري فيه يشكل خطراً على امنها، في حين يرى خبراء أميركيون العائق الرئيس الذي يمنعها من ممارسة دور يتناسب مع وزنها الاقليمي. بالمثل، تريد ادارة اوباما الانسحاب من العراق لأنها متورطة في أفغانستان، وهي تريد تخفيف الضغط عن قواتها هناك من خلال سحب وحدات من العراق وزجها في الحرب ضد طالبان. اضافة الى ذلك، فإن الاحتفاظ بجزء كبير من القوات الأميركية في العراق في الوقت الذي تواجه نفوذ طالبان المتنامي في افغانستان، يترك واشنطن مكشوفة على الصعيد الدولي. فأي عمل عسكري يمكن ان تقوم به الصين أو روسيا – كما حصل في جورجيا صيف العام 2008 – يترك الولايات المتحدة مشلولة وعاجزة عن القيام بأي رد فعل. لقد فهمت روسيا هذا الواقع عندما استغلت تورط أميركا في العراق وأفغانستان لـ «تأديب» جورجيا وهي تدرك ان حليفتها واشنطن لن تستطيع ان تهرع لمساعدتها خلا من بعض الخطابات السياسية الجوفاء. في ظل التوتر الراهن، تخشى ادارة اوباما ان تحذو الصين حذو روسيا في التعامل مع تايوان، وفي حال حدوث ذلك فإنها ستضطر الى تنفيذ انسحاب سريع من افغانستان او العراق لمواجهة هذا الاحتمال او قد تسعى بدلاً من ذلك الى زيادة عديد قواتها العسكرية من خلال فرض التجنيد الاجباري، وهو أمر غير ممكن من الناحية الاقتصادية او السياسية. من هنا تحاول الولايات المتحدة ايجاد طريقة لمواجهة إيران من دون ان تضطر الى الاحتفاظ بجزء كبير من قواتها في العراق ومن دون المراهنة على وصول حكومة في بغداد مستعدة للقبول بقواعد اللعبة السابقة في موازنة الدور الايراني واحتوائه. في هذا الاطار أخذت واشنطن تنظر في شكل متزايد الى الملف النووي الايراني باعتباره جزءاً من الازمة الجيوسياسية التي تواجهها في المنطقة، وهي الآن في صدد البحث عن مخرج.

ويجمع خبراء السياسة الخارجية الأميركية على انها تتمتع بدرجة عالية من البراغماتية. فقد بنت الولايات المتحدة عبر تاريخها سلسلة تحالفات مرحلية مع مجموعة من ابرز خصومها لتحقيق غايات استراتيجية، مثل التحالف الذي انشأه فرانكلين روزفلت مع جوزيف ستالين لاحتواء هتلر وهزيمته، على رغم المعارضة الداخلية والخارجية القوية التي قادتها بريطانيا والكنيسة الكاثوليكية. لكن التحالف الأغرب كان ذاك الذي انشأه الرئيس ريتشارد نيكسون مع الصين على رغم ان هذه الاخيرة كانت المصدر الرئيس للسلاح الذي حارب به الفيتناميون الشماليون القوات الأميركية.

مأزق اوباما الإقليمي في الصراع مع ايران يشبه الى حد ما ورطة روزفلت ونيكسون اللذين قاما بإعادة تعريف مصالحهما ورسم تحالفاتهما بطريقة تؤدي الى الخروج منها. التاريخ الأميركي زاخر بتحالفات مصلحية موقتة صممت لمواجهة مأزق استراتيجي عصي على الحل.

يرى انصار «نظرية الصفقة» من الأميركيين ان المصالح الايرانية والأميركية ليست متعارضة تعارضاً مطلقاً كما يجرى تصوير الامر غالباً، فالولايات المتحدة تريد ان يستمر تدفق النفط عبر مضيق هرمز، فهي لا تتحمل اغلاق هذا الممر الحيوي وبالتالي قطع إمدادات النفط عن السوق العالمية، وتسعى الى منع اي قوة اقليمية او عالمية من التحكم بكامل نفط الخليج (احتياطات او امدادات) لأن ذلك يمنحها مقومات تأثير بعيدة المدى على المستوى الدولي. وتحاول تخفيض انخراط الجزء الاكبر من قواتها في «الحرب على الارهاب» لتخفيف استنزافها وترك جزء منها كاحتياط لمواجهة أزمات أخرى قد تندلع في شكل مفاجئ. من جهة اخرى، تدرك واشنطن ان عليها التعامل مع المسألة الايرانية تعاملاً مباشراً، لأن أوروبا لن تستطيع الذهاب ابعد من تأييد فرض العقوبات لافتقارها الى قدرات عسكرية كبيرة، بينما يرفض الصينيون والروس حتى مجرد الذهاب الى هذا المدى، كما يترتب عليها منع اسرائيل من ارتكاب اي حماقة تجاه ايران لأن اميركا ستجد لزاماً عليها التدخل لمعالجة تداعياتها.

من ناحيتها، تهدف ايران الى ضمان أمن واستقرار نظامها في مواجهة نيات عدائية معززة بوجود عسكري أميركي على حدودها الشرقية والغربية، كما تريد ان تضمن عدم تحول العراق الى تهديد مستقبلي لها، فضلاً عن سعيها الى زيادة نفوذها الاقليمي في بيئة لا تكن لها الكثير من مشاعر الود سواء في منطقة الخليج او على حدودها الشرقية مع باكستان وأفغانستان.

هذا يعني وجود نوع من التطابق في المصالح بين الطرفين، فأميركا تعتبر «القاعدة» خطراً أشد عليها من إيران ومن ثم فهي لا تمانع قيام تعاون مع هذه الاخيرة التي لا تختلف نظرتها الى القاعدة عن نظرة الأميركيين لها. ايران لا ترغب بوجود عسكري أميركي كبير في العراق ولا في أفغانستان، والولايات المتحدة لا تريد ذلك ايضاً اذا ما اطمأنت الى وجود انظمة حليفة لها في هذين البلدين. ايران لا ترغب بقطع امدادات النفط من طريق اغلاق مضيق هرمز لأن تصدير النفط هو مصدر دخلها الرئيس وهذه أيضاً مصلحة أميركية. أخيراً، يدرك الايرانيون ان التهديد الوجودي الوحيد لنظامهم يأتي من أميركا، وهي اذا ما تمكنت من حل مشاكلها معها تكون قد ضمنت بقاء النظام واستمراره.

ومع تزايد المؤشرات على تسليم الأميركيين بحقيقة ان اعادة تشكيل العراق ليلعب دوراً موازناً لايران كما كان في السابق هو امر غير وارد في الظروف الراهنة، يبقى امامهم إما الاحتفاظ بجزء كبير من قواتهم على اراضيه او الانسحاب منه تاركين لايران مساحة النفوذ الاكبر فيه، وهذا هو جوهر المعضلة الأميركية. لكن، وبالعودة الى التجربة الصينية، يرى خبراء أميركيون ان في إمكان بلادهم القبول بنموذج للتعايش مع ايران هذه المرة. فعلى رغم ان الصين استمرت في انتقاد الرأسمالية والتهجم على الإمبريالية في خطابها السياسي حتى بعد الزيارات التي قام بها الى بكين كل من هنري كيسنجر وريتشارد نيكسون، مع ذلك أبدت حرصاً شديداً على المصالح التي اخذت تربطها بواشنطن في شكل متزايد. هذه السابقة قد تشجع على الوصول الى تفاهم أميركي - إيراني تقبل بموجبه واشنطن بإيران قوة إقليمية وربما نووية، شرط ألا تتجاوز هذه الاخيرة الخطوط الحمر التي قد تستدعي تدخلاً عسكرياً أميركياً مباشراً على غرار ما حصل مع العراق عام 1991.

تبقى ردود فعل الأطراف الإقليمية المختلفة وعلى رأسها إسرائيل التي ما زالت ترغب في توريط أميركا في حرب على إيران، على رغم انها أصبحت الآن بحكم المستبعدة. واضح ان حكومة نتانياهو بدأت تدرك انها لم تعد تستطيع الحيلولة دون خروج تفاهم أميركي - إيراني الى العلن، ما يدفعها الى التصرف بطريقة عصبية لم تعد تخفى على أحد. مثل هذا التفاهم، يعتقد بعض الخبراء الأميركيين، سيساعد واشنطن على الخروج من جملة من الورطات الإقليمية دفعة واحدة، وهي من خلال هذا التفاهم ستحاول من جهة اخرى شراء المزيد من الوقت حتى تظهر دولة إقليمية لديها القوة والإمكانية والرغبة في موازنة نفوذ إيران، ويراهن الأميركيون على ان مثل هذا التفاهم سيثير حفيظة دول إقليمية مترقبة مثل تركيا لمنع إيران من الاستئثار بالنفوذ في العراق، وهم يعتقدون لذلك ان انسحابهم سيشكل مدخلاً لإعادة الوضع فيه كما كان في القرن التاسع عشر ساحة تنافس عثماني - صفوي...

أهم الأخبار

اليوم السابع

عشق الصين

سجل الزوار