٠٤ جمادى الأولى ١٤٣١

ثقافة التحديث والإنجاز الصينى بقلم د.محمد أبو الخير


هل يمكن تطبيق التجربة الصينية؟ سؤال يتكرر فى عقول الكثيرين، والإجابة تكون نعم، يمكن أن تتحق تجربة الصين فى أى بلد آخر، فالتجربة ليست معجزة، وليست من كوكب آخر، وليست خارج حدود الإمكانيات، التجربة على كوكب الأرض، وفى قارة آسيا، الصينيون بشر مثل غيرهم من البشر، وما صنعته الصين يمكن أن تنجزه البلد الذى تريد، ولكن ـ ولكن هنا هامة ـ بمنظومة العلم والعمل وكل الجدية.

إن تجربة الصين تمثل نموذجا للإجتهاد والإختيار والإعتماد على النفس وتنمية الطاقات والملكات المتاحة، إن هذه الجهود منضبطة ومنظمة وذات رؤية بعيدة وقريبة المدى والمثابرة على تحقيقها. أهداف كثيرة سعت التجربة الصينية إلى تحقيقها ولعل أهمها والذى يعتبر جوهرها الذى ساهم فى هذه النهضة " تغيير المفاهيم لدى المجتمع " بمعنى أنه لا بد من " ثقافة جديدة " تسرى فى جنبات المجتمع لغرس ثقافة عصرية تبنى القدرات الإبداعية لأفراده. آمنت وتؤمن الصين بأنه لا يمكن أن تبقى وتستمر إلا إذا كان هناك تحديث لها على المستوى الثقافى والإجتماعى والعلمى، وكذلك للأفراد لا بد لهم من " ثقافة التحديث ". ومن هنا كانت البداية الجبهة الداخلية فى الصين، تغيير المفاهيم لدى الإنسان الصينى، إن الإنسان الصينى هو القوة المحركة لطاقة المجتمع بكل إمكانياته، لذلك لقد تم بث روح جديدة يتفاعل معها لتبديل وتعديل سلوكه من حالة الكسل والفهم التقليدى إلى حالة النشاط والحركة والتوجه نحو " ثقافة التحديث "، إنها كانت المعركة الكبرى، المعركة نحو تقديس قيمة العمل، لأنه ليس بالأمانى والشعارات تتحقق أحلام الشعوب، ولكن بالعمل والفعل الجاد. إنه التحدى للذات، والتحدى الآخر للغرب، لتغيير صورة الغرب عن الإنسان الآسيوى كونه رمزا للتخلف وأن عقله أقل قدرة على التفكير المنطقى والإبتكار، لا، الصين القديمة كانت متقدمة تكنولوجيا أفران الصهر التى سمحت بإنتاج الحديد والصلب كانت لديها عام 200 ق.م. وهذا قبل أوربا، كما أنتجت الصين الساعة المائية عام 1086 م والتى فاقت فى دقتها الساعة الميكانيكية الأوربية فى هذا التاريخ، والتقدم فى الرى وصناعة النسيج والسفن وعلوم الطب والفنون. هكذا كانت تهيئة المناخ والتربة للوافد الجديد " التحديث " إنها ضرورة فى سبيل دفع عجلة المجتمع للتقدم، ويعرف الكاتب الصينى ( وو بن ) التحديث فى كتابة " الصينيون المعاصرون "، " هو عملية استخدام الناس للعلوم والتكنولوجيا، والتحسن الشامل لأحوال حياتهم المادية والمعنوية، إنها عملية التغييرات الاجتماعية العميقة والتحولات الثقافية الاجتماعية التى تتسم بالمضمون الثرى والاتجاهات والمستويات المتعددة، كما أنها عملية تقدم مجتمع ما قبل التحديث إلى مجتمع التحديث". إنه تغيير هيكل المجتمع وأسلوب الحياة بين أفراده بعضهم البعض، وكذلك أسلوب تفكيرهم. إن تحويل تصورات ومفاهيم المجتمع الصينى من منظور قديم وجامد وغير قادر على مواكبة العصر، إلى منظور آخر يتسم بالمرونة والإبتكار والمعاصرة والإيقاع السريع ويحاول أن ينافس المجتمعات الآخرى، إنما هى ركيزة أساسية فى بنية الإنجاز. كان " التحديث " مشروعا قوميا نهضويا ، أرضا صالحة لإستنبات كل الأفكار والمشروعات التى تهىء لها القدرة على المواجهة والتحدى والتلاحم مع المستقبل. إن هذا المشروع نحو التحديث لم يترك للمصادفة، أو للأحاديث الفردية، أو يذكر فى بعض التجمعات أو المؤسسات دون غيرها، وإنما أصبح رؤية عامة شاملة وقضية أساسية فى منظومة العمل للدولة والمؤسسات والأفراد، خطة تنتشر فى مفردات الحياة فى المؤسسات والمصانع والجامعات والبيت و الشارع والتليفزيون والصحيفة وكل مناحى الحياة، على الناس أن تحيى مع هذا المشروع القومى إنها فلسفة " المجتمع المتناغم "، الذى يعزف مقطوعة واحده بآلات متنوعة ومتعددة نحو لحن واحد، هدف واحد " تحديث الصين.

ومن هنا كان النهوض بالعلم وتطوير التكنولوجيا وأساليب الإدارة العلمية والبحوث المستمرة وإستخدام المعرفة القديمة والحديثة، هذا ساعد على إعادة هيكلة المجتمع ومن ثم هيكل الإقتصاد والمؤسسات الثقافية مما أنتج تجاوبا كبيرا بين منظومة المجتمع الصينى وحضارة العصر. هكذا نظرت الصين إلى البعد العالمى، وأدركت كيف تتعامل معه بمعطيات روح العصر ولعل مدينة " ناننينج " والتى معناها " "السلام في جنوبي الصين" خير دليل على نموذج العقل الصينى فى التفكير الإقتصادى الذى يحمل فى معطياته التقدم التكنولوجى والإدارة العلمية، إنها المدينة التى يقام فيها " معرض الصين آسيان " سنويا.

إن مدينة ناننينج مدينة قديمة عريقة وفى نفس الوقت مدينة حديثة منفتحة، إن لديها مركز مواصلات هام بين المنطقة الساحلية في جنوب شرقي الصين، والمنطقة الداخلية في جنوب غربي الصين، ويقال إن الأعشاب في ناننينج لا تيبس في الشتاء والزهور موجودة بها طول العام. ويقال أيضا إن نصف المدينة أشجار ونصفها الآخر بنايات. ولهذا تُوصف بأنها "مدينة في حديقة وحديقة في مدينة" وتسمى ناننينج "المدينة الصينية الخضراء"، كما أنها واحدة من المدن الصينية القليلة التي حصلت على جائزة الأمم المتحدة لتحسين بيئة المعيشة. تربط خطوط المواصلات الجوية والحديدية والمائية والبرية ناننينج بما حولها، مما جعلها مركزا للمواصلات من مقاطعة سيتشوان ومنطقة التبت الذاتية الحكم ومقاطعة يوننان ومقاطعة قويتشو فى جنوبي الصين. ولوجود هذه الشبكة الجيدة من المواصلات أصبحت ناننينج البوابة المثالية للمواصلات من مقاطعة قوانجدونج ومقاطعة هاينان ومنطقة هونج كونج ومنطقة ماكاو الإدارية الخاصة، ومن جنوب شرقي آسيا، إلى غربي الصين، وبعد تنفيذ خطة تنمية غربي الصين وإقامة منطقة الصين – آسيان التجارية الحرة، أصبحت ناننينج مركز تجاريا هاما.

إن هذه القدرة الإتصالية الهامة ساهمت فى تنظيم هيكل الصناعات بهذه المنطقة، حيث قامت ناننينج بتطوير صناعات الألومنيوم والسكر والورق، كما أسرعت خطاها في تطوير صناعات التكنولوجيا العالية الجودة مثل صناعة تكنولوجيا المعلومات والأدوية البيولوجية الحديثة وحماية البيئة، وفي الوقت نفسه، طورت قطاعات المعلومات والنقل والمواصلات والعقارات والسياحة والمطاعم فى المدينة، وكلها قطاعات تصبح أعمدة للتنمية الاقتصادية في ناننينج. وفي مجال الانفتاح على الخارج، تتمتع ناننينج بالسياسات الحكومية التفضيلية للانفتاح الممنوحة للمناطق الصينية الساحلية والحدودية اليوم، تتقدم ناننينغ من أجل بناء مدينة إقليمية وعالمية.

في عام 2005، بلغ إجمالي الناتج المحلي لناننينج حوالي 9 مليارات دولار أمريكي بزيادة حوالي 3ر1 مليار دولار أمريكي عن العام السابق، وتجاوزت الإيرادات الماليةحوالي 25ر1 مليار دولار أمريكي. كما تهتم الصين والمؤسسات الصينية بمسؤليتها تجاه المجتمع ففي أواخر عام 2005، تأسست في بكين رابطة الشركات الصينية لأداء المسؤوليات تجاه المجتمع، التي أصدرت لائحة بمعايير تلك المسؤوليات، وهي الأولى من نوعها في الصين. وقد عقدت بعد ذلك العديد من الندوات والاجتماعات حول هذا الموضوع. في مؤتمر قمة الشركات العابرة للقارات لعام 2006، أعلن نائب وزير التجارة ( يي شياو تشوه) نيابة عن الحكومة الصينية بصدد وضع "معايير مسؤولية المؤسسات الصينية تجاه المجتمع"، وناشد الشركات لتنهض بمسؤولياتها الاجتماعية للرقى بتنمية احتياجات المجتمع ،لأن مسؤولية الشركات تجاه المجتمع لها نفس القدر من الأهمية مع المهام الإستراتيجية التي دعت إليها الحكومة الصينية مثل "التنمية الشاملة والمستدامة" و"بناء المجتمع المتناغم". إن الصين تؤكد الحكمة القديمة التى تقول"إذا أردت أن يكون عملك نافعا أجعله نافعا للناس أولا".

إستطاعت الصين أن تتغلب على فيضان العولمة وتضع لها حدود فاصلة عما تشارك فيه، وعما تبعد عنه فى المجالات الثقافية والسياسية والإجتماعية، رغم التلاحمات والتداخلات والتناقضات فى الواقع العالمى، بل يمكن القول بأن الصين إستطاعت أن تنشىء سوقا جديدا يستمد قوته من معطيات شعبه وثقافته، ويتعامل فى نفس الوقت مع الواقع العالمى وهو فى مقدوره التكيف والبقاء والمنافسة من منطلق ثقافة التحديث.

أهم الأخبار

اليوم السابع

عشق الصين

سجل الزوار